مذكرة اعتقال نتنياهو- العدالة الدولية تفعل فعلها؟

في يوم 21 من شهر نوفمبر/ تشرين الثاني لعام 2024، قامت المحكمة الجنائية الدولية بإصدار أوامر قبض وإحضار بحق رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو، بالإضافة إلى وزير الدفاع الأسبق يوآف غالانت. وقد وجهت المحكمة إليهما اتهامات خطيرة بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، وذلك عن الفترة الزمنية الممتدة من 8 أكتوبر/ تشرين الأول لعام 2023 وحتى 20 مايو/ أيار لعام 2024.
وشملت لائحة الاتهامات الموجهة إليهما تهمًا بالغة الخطورة، مثل استخدام سلاح التجويع كسلاح حرب محرم، وارتكاب جرائم بشعة ضد الإنسانية، والتي تضمنت أعمال القتل، والاضطهاد الممنهج، وارتكاب أفعال غير إنسانية أخرى لا يمكن السكوت عليها أو التغاضي عنها، بالإضافة إلى توجيه هجمات متعمدة ضد المدنيين الأبرياء.
أولًا: خلفية القضية
تأتي هذه الخطوة الحاسمة التي اتخذتها المحكمة الجنائية الدولية في أعقاب تحقيقات معمقة ومستفيضة، حيث توصلت المحكمة إلى وجود أدلة دامغة وكافية تشير بوضوح إلى مسؤولية كل من نتنياهو وغالانت عن ارتكاب هذه الجرائم المروعة. وعلى الرغم من أن دولة إسرائيل ليست عضوًا في المحكمة الجنائية الدولية، إلا أن المحكمة استندت في ممارستها لاختصاصها الجغرافي والموضوعي إلى عضوية دولة فلسطين في نظام روما الأساسي.
تجدر الإشارة إلى أن الولاية القضائية للمحكمة على الأراضي الفلسطينية تعود إلى العام 2014. وفي سياق متصل، قام المدعي العام للمحكمة كريم خان بزيارة معبر رفح الحدودي قبل نحو خمسة أشهر، مما يعكس مدى الجدية التي تعاملت بها المحكمة مع هذه التحقيقات.
ثانيًا: ردود الفعل على مذكرات الاعتقال
أبدت إسرائيل استياءً بالغًا وانتقادات حادة اللهجة تجاه هذه المذكرات، حيث صرح وزير الخارجية الإسرائيلي جدعون ساعر بأن المحكمة "فقدت كل مصداقيتها ومشروعيتها". وفي المقابل، أعربت حركة حماس عن ترحيبها الحار بهذه الخطوة، ودعت المحكمة إلى توسيع دائرة المساءلة والمحاسبة لتشمل جميع قادة الاحتلال الإسرائيلي دون استثناء. وعقد نتنياهو اجتماعات طارئة وعاجلة مع عدد من الوزراء والمستشارين؛ من أجل بحث وتقييم التداعيات المحتملة لهذا القرار، كما طلب من كل من ألمانيا وفرنسا التدخل العاجل للضغط على المحكمة من أجل العدول عن إصدار هذه المذكرات.
أثار قرار المحكمة الجنائية الدولية بإصدار مذكرات توقيف بحق بنيامين نتنياهو ويوآف غالانت ردود فعل دولية متباينة ومتضاربة. فقد أعربت الولايات المتحدة عن رفضها المطلق لهذا القرار، وأبدت قلقًا عميقًا إزاء السرعة التي تم بها إصداره، في حين دعا كل من الاتحاد الأوروبي ودول مثل هولندا وأيرلندا إلى ضرورة احترام استقلالية المحكمة وتنفيذ قراراتها الصادرة. ومن جانبها، أبدت كل من فرنسا وإيطاليا تحفظات قانونية بهذا الشأن، وأكدتا على دراسة الموقف عن كثب وبالتنسيق الكامل مع الحلفاء المقربين. أما أيرلندا، فقد اعتبرت هذه الخطوة ذات أهمية بالغة، ودعت إلى تقديم الدعم الكامل للمحكمة في سعيها لتحقيق العدالة.
ثالثًا: التداعيات على إسرائيل وقادتها
في حال تم تنفيذ هذه المذكرات بالفعل، فإنها ستشكل إدانة معنوية جسيمة وخيمة العواقب لأولئك الذين تشملهم. وستجد إسرائيل نفسها في قفص الاتهام مرة أخرى، الأمر الذي سيؤثر بشكل كبير على صورتها ومكانتها الدولية، وسيجعل قادتها غير قادرين على السفر بحرية ودون قيود. كما يُمكن أن يكون لهذه المذكرات تأثيرات سلبية على الاقتصاد الإسرائيلي، ولا سيما في قطاعات حيوية مثل الطيران والسياحة والاستثمار في التكنولوجيا المتقدمة وتجارة الأسلحة.
على الرغم من أنه قد لا يكون من السهل رؤية هؤلاء القادة المتهمين ماثلين أمام العدالة في قفص الاتهام في المستقبل القريب، إلا أن إدانتهم كمطلوبين للعدالة الدولية يحمل في طياته أثرًا بالغ الأهمية. وسيتحول خوف القادة المتهمين إلى رفيق دائم يلازمهم في كل خطوة يخطونها، ولن يتمكنوا من السفر بحرية إلا إلى عدد محدود من العواصم التي ترفض التعاون مع الإرادة الدولية الحرة.
أما دولة الاحتلال، فقد وُصمت اليوم بوصف الإرهاب والإبادة الجماعية في نظر الشعوب الحرة ومعظم دول العالم. كما أن احترام الدول الأوروبية الرسمي لقرار المحكمة، باعتبارها إحدى المؤسسات القضائية التي ساهمت أوروبا في إنشائها، يُعدّ مؤشرًا واضحًا على القبول بهذا التطور القانوني.
رابعًا: الجنائية الدولية بين الشكوك والمصداقية
لطالما تعرضت المحكمة الجنائية الدولية لانتقادات قاسية؛ بسبب تأخرها الملحوظ في فتح تحقيقات فعالة ومثمرة وإصدار أوامر اعتقال بحق القادة المتهمين بارتكاب جرائم حرب. ومع ذلك، فإن إصدار أوامر اعتقال بحق قادة إسرائيليين يمثل خطوة هامة وجادة نحو تعزيز مصداقية المحكمة وإثبات جديتها في محاسبة المسؤولين عن ارتكاب الجرائم الدولية، بغض النظر عن جنسياتهم أو مناصبهم.
يُعد إصدار مذكرات اعتقال بحق نتنياهو وغالانت تطورًا مفصليًا وهامًا في مسيرة العدالة الدولية، ويعكس الالتزام الراسخ للمحكمة بمحاسبة المسؤولين عن ارتكاب الجرائم الخطيرة. ومن المؤكد أن نجاح المحكمة في إصدار وتنفيذ هذه المذكرات، سيعزز من مكانة المحكمة كهيئة قضائية دولية محترمة وذات مصداقية، وسيوجه رسالة قوية مفادها بأنه لا يوجد أحد فوق القانون.
على الرغم من التباطؤ الذي شاب عمل المحكمة في فترات سابقة، والاستهداف المباشر الذي واجهته عبر فرض العقوبات والتهديدات، كما حدث في فترة تولي المدعية العامة السابقة فاتو بنسودة، فإن المحكمة قد أقدمت على هذه الخطوة الجريئة والشجاعة. وعلى الرغم من الصعوبات الجمة، أثبتت المحكمة اليوم قدرتها الفائقة على اتخاذ قرارات تاريخية فارقة تعيد إليها مصداقيتها ودورها المبرر كجهة قضائية دولية محايدة ومستقلة.
لقد حاولت بعض القوى الغربية، منذ نشأة المحكمة، توجيهها لتكون مجرد أداة تستخدم لمعاقبة أفراد من دول العالم الثالث أو خصوم سياسيين، مثل: القادة الأفارقة، أو الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، كما وصفها أحد الدبلوماسيين الأوروبيين في حديث خاص مع المدعي العام. ومع ذلك، فإن إدراج قادة الاحتلال في قائمة المطلوبين يمثل خطوة مفصلية وهامة تُظهر بما لا يدع مجالاً للشك إمكانية المحكمة في تجاوز التسييس والتحيز والانتصار للعدالة الدولية.
خامسًا: خطوات وتحديات تنفيذ مذكرات الاعتقال
يشكل إصدار مذكرة اعتقال بحق نتنياهو وغالانت اختبارًا حقيقيًا لمدى التزام المجتمع الدولي بمبادئ العدالة الدولية، حيث تلزم المادة رقم 89 من نظام روما الأساسي الدول الأطراف بالتعاون التام مع المحكمة الجنائية الدولية في تنفيذ أوامر الاعتقال الصادرة.
إن هذا الإجراء ليس مجرد انتصار للعدالة فحسب، بل هو أيضًا بمثابة رسالة حاسمة وصارمة لإنهاء حالة الإفلات من العقاب، ودعم حقوق الشعب الفلسطيني المقهور. فالعدالة ليست مجرد شعارات جوفاء ترفع، بل هي أفعال ملموسة تتطلب التزامًا حقيقيًا وفعليًا من المجتمع الدولي.
بعد إصدار المذكرات، يتم إحالتها إلى الدول الأطراف في نظام روما الأساسي، والبالغ عددها 124 دولة، من أجل تنفيذها على أرض الواقع. ويتطلب ذلك اعتقال الأشخاص المطلوبين في حال وجودهم على أراضيها وتسليمهم إلى المحكمة.
وبعد ذلك، يبدأ مسار الإجراءات القانونية أمام المحكمة الجنائية الدولية لضمان محاسبة المسؤولين عن الجرائم المرتكبة. وتمثل هذه الخطوات مرحلة حاسمة ومصيرية نحو تحقيق العدالة الدولية المنشودة. ويعتمد تنفيذ هذه الخطوات بشكل كبير على مدى تعاون الدول الأطراف والتزامها بمبادئ العدالة الدولية.
سادسًا: دروس من أفغانستان
شهدت المحكمة الجنائية الدولية في تحقيقها المتعلق بالجرائم المرتكبة في دولة أفغانستان ضغوطًا أميركية مكثفة وهائلة، تجلّت في عدة أشكال مختلفة أثّرت بشكل كبير على مسار التحقيقات، وأبرزت التحديات الجسام التي تواجهها المحكمة في سعيها لتحقيق العدالة الدولية. ومن الممكن أن تنطبق هذه السيناريوهات على أي تحقيقات مماثلة تشمل قادة إسرائيليين.
- الضغوط السياسية والدبلوماسية: مارست الولايات المتحدة، خاصة خلال فترة إدارة الرئيس دونالد ترامب، ضغوطًا سياسية ودبلوماسية كبيرة وهائلة على المحكمة الجنائية الدولية، وذلك بهدف ثنيها عن التحقيق في الجرائم التي ارتكبتها القوات الأميركية ووكالة الاستخبارات المركزية (CIA) في أفغانستان. وتضمنت هذه الضغوط تهديدات مباشرة بفرض عقوبات قاسية على مسؤولي المحكمة في حال استمروا في إجراء التحقيقات، مما عكس تصميمًا واضحًا على حماية مصالحها وقادتها من أي ملاحقة قانونية دولية.
- العقوبات الاقتصادية: في سابقة خطيرة وغير مسبوقة، فرضت إدارة ترامب عقوبات اقتصادية مشددة على المدعية العامة السابقة للمحكمة، فاتو بنسودة، بالإضافة إلى عدد آخر من مسؤولي المحكمة. وتضمنت هذه العقوبات تجميد أصولهم المالية وحظر سفرهم إلى الولايات المتحدة. وقد أثار هذا التصعيد الحاد انتقادات دولية واسعة النطاق، باعتباره استهدافًا سافرًا لهيئة قضائية دولية مستقلة، وشكّل ضغطًا هائلاً يهدف إلى ترهيب مسؤولي المحكمة ومنعهم من متابعة التحقيقات.
- تضييق نطاق التحقيق: في تحول لافت ومثير للدهشة، قرر المدعي العام الحالي للمحكمة، كريم خان، تضييق نطاق التحقيق في الجرائم المرتكبة في أفغانستان ليشمل فقط تلك التي ارتكبتها حركة طالبان وتنظيم الدولة الإسلامية، مستبعدًا بذلك بشكل صريح الجرائم التي ارتكبتها القوات الأميركية. وقد أثار هذا القرار استياءً واسعًا من قبل العديد من منظمات حقوق الإنسان، التي اعتبرت هذه الخطوة بمثابة محاولة واضحة لإفلات الولايات المتحدة من المساءلة والمحاسبة.
إن الضغوط الهائلة التي مورست على المحكمة في ملف أفغانستان تقدم نموذجًا واضحًا لما قد يحدث في حال استهدفت المحكمة قادة إسرائيليين بمذكرات اعتقال. ومن المرجح أن تستخدم الولايات المتحدة، الحليف الاستراتيجي الأكبر لإسرائيل، الأدوات نفسها التي استخدمتها في الماضي، مثل: تهديد مسؤولي المحكمة بفرض عقوبات مماثلة، واتخاذ إجراءات دبلوماسية مكثفة تهدف إلى تحييد أو تعطيل عمل المحكمة، والتأثير على نطاق التحقيقات لتجنب استهداف قادة إسرائيليين.
تثير هذه الممارسات العديد من التساؤلات المشروعة حول قدرة المحكمة الجنائية الدولية على الحفاظ على استقلاليتها التامة وتحقيق العدالة بشكل حيادي ومنصف. كما أنها تسلط الضوء على التحدي الكبير الذي تواجهه المحكمة عندما يتعلق الأمر بمساءلة قادة الدول الكبرى أو حلفائها المقربين. ومع ذلك، فإن نجاح المحكمة في تجاوز هذه الضغوط الهائلة، قد يعيد الثقة الدولية في فاعليتها كمؤسسة عدلية عالمية قادرة على تطبيق مبدأ "لا أحد فوق القانون" على الجميع دون استثناء.
التجربة المريرة مع ملف أفغانستان تُظهر بوضوح وجلاء أن الطريق إلى تحقيق العدالة الدولية مليء بالعقبات السياسية.
سابعًا: خطوة تاريخية نحو العدالة الدولية
يشكل صدور القرار اليوم تحولًا تاريخيًا بكل ما تحمل الكلمة من معنى في عمل المحكمة الجنائية الدولية، ويمثل نقطة تحول غير مسبوقة في مسار العدالة الدولية. فأن يكون قادة الاحتلال، الذين لطالما تمتعت أفعالهم بحصانة غير معلنة ودعم سياسي وعسكري وإعلامي دولي واسع النطاق، في موقع المتهمين المطلوبين للمساءلة أمام القضاء الدولي، يعدّ إنجازًا كبيرًا ومؤشرًا واضحًا على بداية محاسبة المسؤولين عن ارتكاب الجرائم الخطيرة.
يمثل هذا القرار الخطوة الأولى فقط في طريق طويل وشاق يتطلب عملاً مشتركًا ومتضافرًا مع جميع القوى الحرة والشريفة حول العالم، وذلك من أجل تحقيق العدالة الكاملة والمنصفة لضحايا الشعب الفلسطيني. ولا يزال هناك الكثير من العمل الذي يتوجب القيام به لضمان مثول جميع المسؤولين عن ارتكاب الجرائم، بدءًا من القادة السياسيين والعسكريين والأمنيين، أمام العدالة الدولية.